بقلم منذر هنداوي
تعثرت فتاة إنكليزية جميلة على مدخل كافيتيريا تابعة لمركز تعلم اللغة فانتخى شاب عربي و ساعدها و لملم لها أغراضها و أوراقها المتساقطة على الأرض و أجلسها على الكرسي بعد أن شعرت بألم في قدمها. بعد قليل من التألم شعرت الفتاة أنها مجرد رضوض بسيطة و أن قدمها سليمة. نظمت بعدها أوراقها و دفاترها و وضعتها في حقيبتها و شكرت الشاب على مساعدته و قالت له: نسيت أنني أتيت لشرب القهوة، و سألته إن كان يرغب بتناول القهوة معها. وافق الشاب و ارتسمت علامات الفرح على وجهه، و جلس بقربها و راح يحاول الحديث بكل شيء محاولاً نيل إعجابها أكثر و أكثر بعدما أظهره من نُبل في مساعدتها. لكن لغته الانكليزية كانت ضعيفة فلم تفهم البنت كثيراً مما كان يريد قوله؛ فقد كان الشاب قد أتى لتوه لدراسة اللغة الانكليزية في انكلترا على أمل تحصيل قبول في الجامعة. لذلك غلبت على الحديث الودي لغة الاشارة و الابتسامات إضافة بالطبع إلى الصوت المجلجل لذلك الشاب ثوري المظهر و الصوت و الحركة. المهم بعد ان انتهيا من شرب القهوة قامت الفتاة و دفعت الحساب و هي تشكره ثانية لمساعدته و تهم بالخروج. كان المبلغ بسيطاً؛ حوالي ربع جنيه وقتها. انزعج الشاب وأقسم إلا أن يدفع عنها. أخرج من جيبه جنيه، فقالت له الفتاة بدهشة: لكن تم دفع الحساب!. لكن الشاب الغاضب قال بإنكليزية مكسرة هذا لا يجوز: “I am the man”، انا الرجل. لم تفهم الفتاة مقصده و أجابته و علامة الاستغراب بادية على وجهها و بسمة تريد أن تخفيها: “I guess you are” أي أظن ذلك. ربما لم يفهم عليها جيداً فتابع بالانكليزيّة ما معناه: (لكان ليش دفعتي عني). سيطر سوء الفهم على المشهد و بالنتيجة انفعل الشاب ومسك الجنيه و مزقه و رماه بغضب و لعن بلغته العربية ابو الفلوس مظهراً أن النقود لا تهمه. عندها غضبت الفتاة و تركته و مشت. حاول الشاب الحديث معها وإرجاعها لكنها ازدادت غضبا و صاحت بوجهه دعني أذهب. تدخل أحد من أصدقائه من بلده المتواجدين في الكافيتيريا وقتها و قال له انتبه يا ميلود ترى و الله يسجنوك اذا تغلط معاها. عاد الشاب الى الطاولة مكتئباً منكسراً محتاراً و لا يجد تفسيرا لتصرفها و انقلاب مزاجها، لكن بنفس الوقت حانقاً كيف تدفع بنتٌ الحساب عنه!.
بعد عدة أيام التقيته و عدد من زملائه و كانت عيناه تبرق، و في رأسه كثير من الكلام و كأنه “وجدها” كما “وجدها” من قبله أرخميدس. أي وجد التفسير لتصرف الفتاة. استمعت اليه و هو يشرح لمن حوله بأن الإنكليز عنصريين. و سأل: بتعرفوا ليش البنت زعلت، و تابع دون أن ينتظر جواب أحد (و كيف ينتظر و قد وجد الحل لأكبر لغز في التاريخ)، وقال: “لأنو صورة الملكة مرسومة على العملة تاعهم، و البنت اعتبرت اني أهنت الملكة”. ثم راح يشرح انهم يحبون الملكة أكثر من الله و العياذ بالله. و تابع شروحاته و تفسيراته المذهلة التي اكتشفها، لكن ذهني توقف عن متابعة حديثه فقد انشغلت بالتفكير برأس هذا الشاب و ما يوجد بداخله، دماغ بشري أم ماذا!. تفحصت وجهه و ملامحه و ما اذا كان يتظاهر و يعرف انه يكذب فوجدت تعابير وجهه غاية في الجدية و الاقتناع بما يقول. لم أصدق بداية أنه لم يلاحظ مدى حماقته و سوء تصرفه في تمزيق الجنيه، لكن بعد ان تفحصت ملامحه و حديثه تبين لي انه لم يفكر للحظة انه ارتكب حماقة. بل ربما وجد في تصرفه رجولة أعادت له كرامته المهدورة عندما دفعت بنت ثمن فنجان قهوة عنه. و ربما وجد في تصرفه قصة رائعة يحكيها ليتفاخر بها أمام أصحابه عندما يعود إلى بلده. و الأمر الأغرب ان الحديث تطور لاحقاً ليصبح عن عنصرية الإنكليز و انحدار اخلاقهم بين أصدقائه المتواجدين معه. أحدهم اختلف معه و قدم تفسيرا آخر بان الإنكليز يحبون المال أكثر من الملكة و من الله، و أن المال هو ربهم الحقيقي. لذلك فتمزيق الجنيه هو تمزيق لربهم. وافقه بعضهم و زادوا بالحديث و راح كل واحد يحكي قصة أو حادثة تدل على عنصرية الإنكليز، و برودة أعصابهم، و خبثهم، و عبادتهم للمال و انهم ماسونيين، الى آخره. شاركت طبعاً في الحوار و اختلفت معهم، و لكن الجو كان مشحونا لصاح ذلك الشاب الثوري الذي انهدرت كرامته، لكن ايضاً انهدرت فرصته بإقامة علاقة غرامية مع فتاة جميلة، و ربما كان هذا هو السبب الأهم المخبأ خلف غضبه الكبير على الإنكليز.
هذه الحادثة حصلت أمامي قبل ٣٨ و بقيت في ذاكرتي كل هذه السنين مثال عن الغرور و الغرق بالذات و الخلل في التفكير و اساءة التفسير، و ضعف القدرة على فهم الأسباب الأساسية لما نراه من أحداث. لو كان ذلك الشاب فكر قليلاً بما يدور بذهن تلك الفتاة، و استمع اليها أكثر من أن يحاضرها بكلام لم تفهمه، لكان فهم تصرفها أكثر. لكنه لم يحاول. فقد كان على عجلة من أمره يريد استعراض أفكاره و مواهبه و مزاياه، و ظن أنه أوقع البنت بغرامه و انتهى الأمر، و ما عليها إلا أن تستمع و توافق. لكن من الواضح أنه كان للبنت رأي أخر مختلف كلياً. لا شك انها رأت فيه حماقة جعلتها تصيح بوجهه دعني أذهب.
ميلود غريق بذاته. ميلود موجود بألف شكل و لون في بلادنا. موجود على أغلب صفحات الفيسبوك. موجود بكل شخص ينظر في المرآة فيجد نفسه كازانوفا. موجود بكل شخص إذا تكلم تصور نفسه ملك الفصاحة. موجود بكل متفهمن إذا كتب جملتين منمقتين ظن نفسه البحتري أو شيكسبير. الغريق بذاته لا يستطيع الإمعان بما يدور بأذهان الآخرين من معانٍ يريدون قولها. إنه مصدرٌ للحماقة و ما ينتج عنها من عداوات و مهاترات. إنه مصدر لتحويل الحوار الى مهاترة و شجار.
يجب الخروج من عالم الذات الضيق إلى عالم الناس الأوسع. يجب الانتقال من المونولوج إلى الديالوغ. من الحوار مع الذات الى الحوار مع الآخرين كي نرى العالم و الأشياء و الأفكار من خلال عيون الناس و آرائهم و أفكارهم و شروحاتهم، و ليس فقط من خلال ما نراه نحن. يجب ان نمتحن صواب رأينا من خلال عرضه على الآخرين و فهم نظرتهم بما يرونه نقصاً بآرائنا. فبمقدار قدرة الفرد على الإصغاء للمعاني التي يريد الآخر قولها، بمقدار ما يتطور فهمه، و بمقدار ما يستفيد الناس منه.
من يغرق بذاته لا يستفيد و لا يفيد. لا يفيد بفكره و لا بآرائه، و يبقى قادراً على الحماقة و الإساءة بمقدار غرقه بذاته. الموضوعية تتطلب ضبط الغرور و ضبط الغزل بالنفس. المجتمع ليس تجمع أفراد كل يغني مواويله دون الإكتراث بمن يسمع و من يغني. المجتمع تجتمع أفراد مختلفين، لكن متفقين على حل خلافاتهم بالحوار و بالإستماع لبعضهم، و بفهم أفكار بعضهم. فقط بالإنصات لبعضهم يمضون كجماعة تعزف معاً سيمفونية مختلفة الألحان و الأصوات و الآلات الموسيقية لكن متناسقة الايقاع.
فمتى يخرج ميلود من المستنقع!؟ متى يتعلم الاصغاء؟ متى نتعلم الإصغاء إلى بعضنا!؟. متى نصبح مجتمعاً!؟.
Related posts:
Views: 0